دمعة تعاطف وابتسامة أمل… مهرجان عمّان السينمائي يحتفي بالحياة رغم الموت المحلّق
يوليو 6, 2025غالبًا ما تكون أفلام المخرج الإيرلندي جيم شيريدان (1949)، صريحة وبسيطة، مما يسمح للشخصيات وتجاربها بأن تكون محور الاهتمام. قدرته على تسليط الضوء على قضايا اجتماعية وسياسية متجذّرة في التاريخ والثقافة الإيرلندية، رسّخت مكانته كأحد أبرز الأصوات في السينما الحديثة.
يضفي نهجه الواقعي في صناعة الأفلام طابعًا خامًا وصادقًا على سردياته، وكما يخلق مزيجه الفريد في السرد الشخصي مع السياق الأوسع للثقافة والسياسة الإيرلندية تجربة سينمائية آسرة ومحفّزة. بدأ شيريدان مسيرته في المسرح، كأحد مؤسسي مركز «مشروع الفنون في دبلن»، كرّس سنواته الأولى في الإنتاج المسرحي. في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، انتقل إلى نيويورك بهدف معايشة عالم برودواي عن كثب. انتهز الفرصة للتسجيل في كلية السينما في جامعة نيويورك، لدورة تدريبية مدتها ستة أسابيع. لم يخطُ شيريدان خطوة كبيرة نحو الإخراج إلا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
سيكون جيم شيريدان في عمّان هذه السنة، في قسم «الأول والأحدث»، خلال فعاليات «مهرجان عمّان – أول فيلم» (2 – 10 تموز/يوليو 2025). كما سيُعرض في المهرجان فيلمان لشيريدان ساعدا المخرج على إطلاق نهضة في السينما الإيرلندية.
«قدمي اليسرى» (1989، «My Left Foot»)
كان جيم شيريدان على دراية بقصة وأعمال كريستي براون (1932 – 1981)، وهو كاتب ورسام وشاعر إيرلندي عانى من شلل دماغي جعله عاجزًا تقريبًا عن الحركة باستثناء قدمه اليسرى منذ ولادته وحتى وفاته عن عمر يناهز 49 عامًا. نشر براون سيرته الذاتية «قدمي اليسرى» سنة 1954، ورأى شيريدان أن هناك فيلمًا، لتكون هذه القصة باكورته السينمائية.
يُصوّر الفيلم التحول المفاجئ في حياة كريستي براون (دانيال داي لويس)، بدءًا من طفولته، وشلله الدماغي واعتقاد الجميع أنه لن يحقق شيئًا في الحياة. يبدأ براون في كسر هذا التّصوّر باستخدام قدمه اليسرى وقطعة طبشور لخربشة رسائل من كلمة واحدة على حيطان منزله. ما بدأ كمعجزة صغيرة، تحوّل ليكون فنانًا ذا عمق كبير. يساهم شيريدان في تصوير جميع أبعاد الشخصية، وكما أن تصميم داي لويس في التمثيل الجسدي للشخصية، والانغماس الكبير في عقل براون اللامع، جعلا أداءه لا يُنسى، وأكسباه جائزة الأوسكار الأولى.
شيريدان بارع في إعادة خلق البيئات، تمكّن من وصف المناخ الإنساني والاجتماعي الذي عاشت فيه طفولة وحياة كريستي بواقعية كبيرة. فهو من عائلة كاثوليكية متواضعة، نشأ في حيّ للطبقة العاملة في دبلن، حيث يسود عدم الاستقرار في كلّ شيء: صعوبات مالية، واكتظاظ سكاني، واحتكاكات تثير خلافات حادّة. ويتعزز الشعور بالبؤس في التصوير، الذي يُبرز الوجود بينما يُخفّف من وطأة البيئات المحيطة.
على الرغم من أن السيناريو المتين الذي كتبه شيريدان يعيد صياغة القصة الأصلية بأمانة كبيرة، فإنه حاول إخفاء أحد أكثر العناصر إثارة في حياة كريستي، وهي التأثير الحاسم لإيمانه الكاثوليكي على رغبته في تطوير ذاته. ومع ذلك، حاول شيريدان إدخال بعض الانتقادات المُبطنة للتسلسل الهرمي في الفيلم، خصوصًا في شخصية الكاهن المُتشدّد.
بالطبع، ما كان كريستي براون ليُطوّر نفسه على الرغم من مرضه، لولا التشجيع المستمر من والدته (بريدا فريكر)، وهي مهمة جسّدها الفيلم ببراعة، بجانب الرغبة الكبيرة للتفوق والحياة التي دائمًا ما تترافق مع الحبّ.
يكسر فيلم «قدمي اليسرى» التعاطف مع ذوي الاحتياجات الخاصة، ويقضي على الشفقة على الذات، مفسحًا في المجال لتقديم إنسان ضعيف لكن شرس، يحتاج إلى المساعدة، لكنه مصمّم على الوقوف على قدميه، يفتقر إلى بعض الإمكانيات، لكنه قادر على إثبات نفسه.
«باسم الأب» (1993، «In The Name of The Father»)
«أغاني الحبّ الإيرلندية حزينة، بينما أغاني الحرب مُبهجة»، هذه الكلمات، المقتبسة من رواية كولوم ماكان «عبر الأطلسي»، تلخّص هوية الشعب الإيرلندي. شعب مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمعاناته، ثمل بالكحول، غارق في المطر، يُضطهد على مرّ تاريخه بالجوع والحرب والظلم، لكنه لا ييأس أو يستسلم أبدًا، ونال استقلاله وحريته رغم كلّ شيء. هوية هذا الشعب والبلد استعارها جيم شيريدان وحوّلها إلى فيلم بعنوان «باسم الأب».
«باسم الأب» فيلم ملهم يُمثّل إدانة سياسية واجتماعية، مستندًا إلى سيرة البطل جيري كونلون (1954 – 2014). وقد نجح شيريدان في تجسيد المأساة العميقة التي تعرّضت لها هذه الضحية، وهي مأساة تاريخية عن الظلم القضائي. ولتقديم القصة بأصالة، كتب شيريدان نصًا رصينًا، وتعاون مع كونلون نفسه، الذي كان حينها لا يزال يُناضل من أجل إدانة ضباط الشرطة المسؤولين عن تحريف القضية.
تدور أحداث الفيلم في بلفاست في سبعينيات القرن الماضي، حيث كان الجيش الجمهوري الإيرلندي في أوج نشاطه، واعتمد السياسيون والشرطة على قانون منع الإرهاب، لينتهي المطاف بالعديد من الأبرياء إلى التعرّض للتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان، والسجن من دون إدانتهم بالأعمال الإرهابية التي اتُّهموا بها. كان زمنًا من النقد الاجتماعي، والصراع الطبقي، والفقر، وحالة من الفوضى أشعلتها ظلمات الحكومة، فقرّر الجيش الجمهوري الإيرلندي الانتقال إلى الهجمات العنيفة، مطالبًا بالحقوق والاستقلال والتغيير السياسي. قصة الفيلم هي القصة الحقيقية لشاب مجنون من بلفاست يُعتقل ويُعذّب ويُحاكم، وفي النهاية، يُسجن على جريمة لم يرتكبها، بسبب وحشية نظام يائس، وحقد يعود إلى سنوات طويلة من الصراع.
قصة جيري كونلون (دانيال داي لويس)، هي رحلة إلى الجحيم للنهوض من الرماد. مُخربٌ حقيقي بلا عمل أو دخل، ترتكز أفعاله السيئة على السرقة، ينتقل في النهاية إلى لندن، بناءً على طلب والديه، ليُصلح مساره أخيرًا ويصبح شابًا صالحًا. لكن حياته تنحرف عندما يكون في المكان الخطأ في الوقت الخطأ، ويصبح كبش فداء لهجوم إرهابي على حانة مزدحمة. ينتهي به المطاف هو وعدد من أصدقائه وعائلته في السجن، بعدما عانوا من التعذيب والإذلال والتحريف والتلاعب بشهاداتهم، وُضعوا في السجن دون أي فرصة لمحاكمة عادلة.
يروي شيريدان بالتفصيل كلّ محنة من محن بطله، من مشاهد الاستجواب إلى مشاهد الحكم الأخير، ومن المشاهد الأولى العنيفة في بلفاست الكئيبة والرمادية إلى المشاهد الريفية المشرقة، ومشاهد جيري وأصدقائه الذين يعيشون مثل الهيبيين في شوارع لندن. إن معرفة بطل الرواية التدريجية لوالده (بيتي بوستلثويت) خلال فترة حبسهما تعزز الفيلم، حيث يُؤخذ إلى ما هو أبعد من إحداثيات السينما السياسية ليصبح فيلمًا للاستكشاف والتحوّل الشخصي والنضج.
الفيلم ليس دفاعًا عن الجيش الجمهوري الإيرلندي، بل إدانة للكراهية والقومية وللنظام القضائي الإنجليزي الذي يسمح بأخطاء مماثلة. «باسم الأب» فيلم كلاسيكي، تبدو مشاهدته أشبه بالاقتراب من النار. كل أداء فيه ملتهب ويملأ كلّ ثانية من الشاشة. يجعلك الفيلم تعاني معه، تبكي غضبًا وتضحك. وفي ذروته، تشعر برغبة في الصراخ على الشاشة مثلما يصرخ جيري طالبًا ما هو ملكه: حريته، عدالته، وذكرى والده.